خلق العفو والتسامح
إن الحمد
لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، و
نعوذ بالله، من شرور أنفسنا، ومن سيئات
أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، و من يضلل فلا
هادي، و أشهد أنْ لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، و أشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله،
وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، ومبلغ النـاس شرعه، صلى الله
عليه و على آله و صحبه وسلم تسليما مزيدا، أما بعد:- أيها المؤمنون عباد
الله - خير وصية أوصي نفسي وإياكم بها بها تقوى الله تعالى، إنه من لا يتقي الله تتشابه عليه
السبل{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } قال بن سعدي رحمه الله: إن تتقوا الله يجعل لكم
فرقانا، أي يجعل لكم علما تفرقون به بين الحق والباطل، فاتقوا الله رحمكم الله،
اتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم أما بعد: عباد الله
- روى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال:قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ اللَّهَ عز وجل عَفُوٌّ يُحِبُّ
الْعَفْوَ". وسألت عائشة رضى الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم فى معرض
حديثه عن ليلة القدر والترغيب فيها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛
أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَة القَدْرِ، مَا أَقُولُ فِيهَا؟
قَالَ: «قولي: اللهمّ إنّك عفوّ تحبّ العفوَ فاعف عنّي». وقد أخبر النبي صلى الله
عليه وسلم أن الله تعالى عفوّ كريم يحبّ العفو ويحب من عباده العفو والصفح
والتجاوز والعفو اسم من أسماءه وصفة من صفاته فله العفو الشامل،
الذي وسع عفوه الورى، ووسع ما يصدر عن عباده من الذنوب هو العفوّ
الغفور، الذي لم يزل ولا يزال بالعفو معروفاً، وبالغفران والصفح عن عباده
موصوفاً، وكل أحد مضطرّ إلى عفوه ومغفرته، كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه تبارك
وتعالى له صفات الكمال كلها، منزه عن كل عيب ونقص وعن كل تشبيه وتمثيل. والعفو هو
الذي يمحو السيئات، ويتجاوز عن المعاصي، ويصفح عمن تاب وأناب . فهو سبحانه
يعفو عن الذنوب ويترك العقاب عليها قال تعالى: ﴿ وكانَ الله عَفُوًّا
غَفُوراً ﴾ وقال تعالى قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ
أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} وقال سبحانه:
{ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ
لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لعَفُوٌّ غَفُورٌ} وقال تعالى ﴿ وَهُوَ
الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ
وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ قال بن سعدي –رحمه الله-:"أي:يعفو عن
المذنبين،فلا يعاجلهم بالعقوبة ، ويغفر ذنوبهم ، فيزيلها،ويزيل آثارها عنهم، فهو
يعفو عن عباده مع قدرته على عقابهم ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا
قَدِيرًا}" وهو مع ذلك، يحب من عباده أن يسعوا في فعل الأسباب التي ينالون
بها عفوه، من السعي في مرضاته، والإحسان إلى خلقه، ومن كمال عفوه
سبحانه أنه مهما أسرف العبد على نفسه، ثم تاب إليه ورجع، غفر له جميع
ذنبه مها كان الذنب كبيرا والجرم عظيما ، قال الله تعالى ﴿ قُلْ يَاعِبَادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
﴾وروى البخاري بسنده عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله
عليه وسلم: «ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدَّعُون له الصاحبة والولد ثم
يعافيهم ويرزقهم» وقوله: «ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله..» يثبت صفة
القوة لله سبحانه، بخلاف المخلوق، فإنه لا يصبر على من أساء إليه، وهذا
الأذى لا يضر الله تعالى ومع هذا الجحود والأذى من بني آدم
«يعافيهم، ويرزقهم» فضله على عباده بالعافية والرزق، وأن كل ما يقع بأيديهم
من رزقه، فهو الذي هيأ لهم أسبابه ويسر لهم طرقه وهذا من جملة العفو والرحمة
والمغفرة وقد بين الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه ما
بعثه وأرسله إلا رحمة للعالمين فكان مبعثه رحمة بالناس وكان عليه
الصلاة والسلام رؤوف رحيم بالمؤمنين ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم
حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) وقال تعالى مرغبا نبيه وآمرا إياه بالعفو
والرحمة واللين والمسامحة قال تعالى (( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ
لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ))
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} والرحمة
والشفقة واللين والتسامح كانت من خصائصه التى جبل عليها النبي صلى
الله عليه وسلم ونال بها الثناء الأبدى (( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ
)) وروى البخاري عن عطاء بن يسار قال: لقيتُ عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي
الله عنهما - قلت: "أخبِرني عن صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
التوراة، قال: أجَل، والله إنه لموصوفٌ في التوراة ببعض صفتِه في القرآن: يا أيها
النبيُّ، إنا أرسلناك شاهدًا ومبشِّرًا ونذيرًا، وحِرْزًا للأميين، أنت عبدي
ورسولي، سمَّيتُك المتوكل، ليس بفظٍّ ولا غليظ، ولا سخَّاب في الأسواق، ولا يدفع
بالسَّيئة السَّيئةَ؛ ولكن يعفو ويغفر، ولن يَقْبضه الله حتى يُقيم به المِلَّة
العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بها أعيُنًا عميًا، وآذانًا صُمًّا،
وقلوبًا غُلفًا" وروى الترمذي بسنده عن أَبي عَبْدِ اللَّهِ الجَدَلِيّ قال:
سَأَلْتُ عَائِشَةَ، عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: «لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَلَا صَخَّابًا
فِي الأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو
وَيَصْفَحُ». وقد ضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو الأسوة والقدوة والرحمة
المهداة أروع الأمثلة فى العفو والصفح والتجاوز والسنة زاخرة بمواقف ونماذج عفوه
مع الناس فمن ذلك ما رواه البخارى ومسلم من حديث عروة بن الزبير أَنَّ
عَائِشَةَ رضي الله عنها حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ:
"هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟" قَالَ:
«لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ
يَوْمَ الْعَقَبَةِ؛ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ
عَبْدِ كُلاَلٍ؛ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا
مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ
الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي
فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ
قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ
إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ" فَنَادَانِي
مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: "يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ
اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ
بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ؟ إِنْ شِئْتَ
أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ"؛ فَقَالَ النَّبِيُّ: بَلْ أَرْجُو
أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا
يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» قال ابن القيم-رحمه الله:- (فتأمل حال النبي صلى الله عليه
وسلم وما حكاه من إيذاء قومه له إذ ضربه قومه حتى أدموه فجعل يُزيل- الدم
عنه،ويقول(اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) فقابلهم بعفوه عنهم واستغفاره لهم
واعتذاره منهم بأنهم لا يعلمون واستعطافه لهم اللهم اغفر لقومي. وروى
البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ
أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ
الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَه بِرِدَائِهِ جذب جَبْذَةً
شَدِيدَةً، قَالَ أَنَسٌ: فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ وَقَدْ
أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ:
"يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ
إِلَيْهِ، فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاء" وروى مسلم بسنده عن جابر بن
عبد الله رضى الله عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وسلم نائمًا في ظل
شجرة، فإذا برجل من الكفار يهجم عليه، وهو ماسك بسيفه يوقظه، يقول: يا محمد، من
يمنعك مني فقال رسول صلى الله عليه وسلم (الله).فاضطرب الرجل وارتجف، وسقط
السيف من يده، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم السيف، وقال للرجل: (ومن يمنعك مني؟).
فقال الرجل: كن خير آخذ يا محمد . فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه.و
لما فتح مكة، اجتمع له أهلها عند الكعبة، ثُمّ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا
تُرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟» قَالُوا: "خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ
أَخٍ كَرِيمٍ" قَالَ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ» روى
البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ يَهُودِيَّةً
أَتَتْ النَّبِيَّ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا فَقِيلَ:
"أَلاَ نَقْتُلُهَا؟" قَالَ: «لاَ، فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي
لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ» والعفو صفة أنبياء الله ورسله فهذا
يوسف - عليه السلام – وقد فَعَلَ إخوتُه فيه ما حكاه الله تعالى لنا في
كتابه، فلمّا مكّن الله له، وجاءو إليه يعتذرون؛ قابلهم بالعفو والصفح،: ﴿ قَالَ
لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ ﴾ وروى البخاري ومسلم عن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود
- رضي الله عنه – قال: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ
يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، فَهُوَ
يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ
لاَ يَعْلَمُونَ" قال النووي –رحمه الله- " وفيه بيان حال الأنبياء وما
كانوا عليه صلوات الله وسلامه عليهم من الحلم والتصبر والعفو والشفقة على قومهم
ودعائهم لهم بالهداية والغفران وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم بأنهم لا يعلمون، وهذا
النبي المشار إليه من المتقدمين، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام لقوا من
أقوامهم ما لاقوه من سوء المعاملة!والتحريض عليهم!بل وصل الأمر إلى التعدي عليهم
وضربهم! ومع هذا لم ينتقموا لأنفسهم! بل صبروا على الأذى الذي طالهم في سبيل نشر
دعوتهم،وبذلوا وسعهم في بيان الحق لمن أرسلوا إليهم،وقابلوا إساءات أقوامهم بالصبر
والحلم والعفو والصفح والدعاء وقد وردت آيات كثيرة فى
كتاب الله في ذكر العفو والصفح والترغيب فيهما، فمن ذلك قوله تعالى: وَلَا
يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى
وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ } وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ
أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا
وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿ خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ ﴿ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا
حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
وقال تعالى ( وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله )﴿ فَاعْفُ
عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾. ﴿ فَاصْفَحِ
الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾- فأمر الله تعالى فى هذه الآيات بالعفو، والصفح ،وذلك أن
في العفو مصالح لا يمكن حصرها، ولأنَّ الجزاء من جنس العمل. فمن عفا عفا
الله عنه، ومن صفح صفح الله عنه، ومن غفر غفر الله له، ومن عامل الله فيما يحب،
وعامل عباده كما يحبون وينفعهم، نال محبة الله ومحبة عباده، واستوثق له أمره وما
ورد فى السنة من فضيلة العفو والأمر به ما أخرجه الإمام أحمد عَنْ
عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ
لِي: « يَا عُقْبَة بْنَ عَامِرٍ؛ صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ،
وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ ».وروى البيهقي بسنده عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِنْبَرِهِ
يَقُولُ: «ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يَغْفِرِ اللَّهُ لَكُمْ، وَيْلٌ
لأَقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا
فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ». وروى مسلم عن أبي هريرة –رضي الله عنه-
قال:قال رسول صلى الله عليه وسلم: (:مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ ، وَمَا
زَادَ اللهُ رَجُلاً بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا ، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلاَّ
رَفَعَهُ اللهُ ) وروى البخاري عن عُرْوَةَ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - يعني ابْنَ
الزُّبَيْرِ - في قَوْلِهِ : (خُذِ الْعَفْوَ) قَالَ :أُمِرَ نَبِىُّ اللَّهِ ,
صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلاَقِ النَّاسِ. وروى البزار
بسنده عن أبي بكر رضى الله عنه فقال : قام فينا رسولُ اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ كقيامي فيكم اليومَ ، فقال : إِنَّ الناسَ لم يعْطَوْا شيئًا
أفضلَ مِنَ العفْوِ والعافِيَةِ فسلوهما اللهَ.
أقول قولى هذا واستغفر
الله لي ولكم
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله هو
يتولى الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
تسليماً مزيداً إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله اتقوا الله حق التقوى وراقبوه فى السر والنجوى
واشكروه على نعمه التى لا تعد ولا تحصى {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}
أيها المؤمنون- لما حث الإسلامُ على العفوِ
والتسامُحِ وكظمِ الغيظِ لم يُرِد لنا أن نكون ضُعفاء، ولا جُبَناء، ولا أن يغرِسَ
في نفوسِنا الذِّلَّةَ والهَوَان، كلا. وإنما أرشدَنا إلى ذلكم ليُبيِّن لنا
أن اللِّينَ والسماحَة هُما الأقوى والأفضلُ لسلامةَ الصدر وبراءةَ النفس من
نَزعَة التشفِّي وحب الانتِصار من المُخطِئ فإياك أن تعتقد أن العفو يَنِمّ عن ضعف
وعجز وهوان، وإنما هو عزة وانتصار على النفس ووساوس الشيطان. والله سبحانه وتعالى
بين خلق العفو من صفات المؤمنين المتقين وأنه صفة من صفات أهل الجنة قال تعالى
" وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ
وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي
السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وجعل سبحانه وتعالى العفو
سبباً لمرضاة الله ومغفرته وعفوه , فقال سبحانه :" إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا
أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا
) وجعل العفو عن الناس أقرب إلى التقوى , فقال سبحانه : " وَأَنْ تَعْفُوا
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فالعفو أقربُ للتقوى، والصَّفح أكرمُ في العُقبى، والتجاوُز
أحسنُ في الذِّكرى. بالعفو والصفح تنقلب العداوة إلى صداقة، بالعفو والصفح تغفر
الذنوب ﴿ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ ﴾ بالعفو يُنال الأجرُ والثواب: ﴿ فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ
عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ فالجزاء من جنس العمل!. وإيثار
العبد للعفو والصفح على العقاب والتأنيب ما يزيده إلا علوا في المكانة ورفعة بين
الناس في الدنيا فالجزاء من جنس العمل، فمن عفا عَفا الله عنه،
ومن صفحَ صفح الله عنه، ومن غفرَ غفر الله له، ومَن عامل العباد بما ينفعهم ولا
يضرّهم، نال محبة الله ومحبة عباده. "
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تسليما مزيدا إلى يوم الدين
تعليقات
إرسال تعليق